لا أعرف لماذا فى الإدارات الحكومية فى مصر يصرون على هذا المنهج فى التخطيط .. (الخطة الخمسية)؟؟؟..
وكأن من يخططون يخشون أن يحصد غيرهم بذور تخطيطهم، فلا يخططون إلا للفترة الوزارية التى يجلسون فيها على الكراسى، أو ربما هم يخشون الحسد، فهو وارد فى القرآن وقد أرشدنا مجاذيب السيدة والحسين إلى أن الخمسة وخميسة تمنع الحسد وتحفظك من عين الحسود.
أو ربما هم يخشون الفشل فى حالة التخطيط على المدى البعيد، فهم يفضلون اللعب فى المضمون .. أما عن التحقق من مطابقة الواقع بالمخطَطَ، فهى مصيبة المصائب، واعفونى من التحدث فى هذه الجزئية حفاظاً على ضغط دمكم، ونبضات قلوبكم التى هى غالية عندى أيما غلاوة.
***
بدلاً من هذا دعونا نتحدث قليلاً عن أُناس خططوا لأجيال متتالية من البشر ..
يقول د. صلاح الراشد فى سلسلته التغيير الفعال:
“هناك دراسة تقول أن البشر اللذين يخططون لفترات زمنية طويلة يحققون أهدافهم فى فترات زمنية أقل، فالذى يحقق لتحقيق هدفه بعد 10 سنين ويعمل على تحقيقه بجدية آخذاً بالأسباب فى تحقيقه، فهو يصل إلى هدفه قبل مضى العشر سنوات. وبالعكس مع الذى يخطط لفترات زمنية قصيرة، فهو يصل إلى هدفه بعد الزمن الذى خطط له، فلو كان يخطط للانتهاء من قراءة موسوعة معينة فى 3 أشهر مثلاً فهو ربما يقضى 4 أو 5 أشهر أو ما يزيد عن ذلك”.
من الطبيعى أن تخطط إلى تصبو إليه نفسك وتشتاق إليه عينيك، فهذا هو مراد البشر جميعاً، ولكن كيف بمن يخطط للحياة من بعد موته؟ .. هو فاق البشر العاديين منزلة عند أهل الدنيا، وربما عند أهل الآخرة أيضاً لو كان فى عمله ما يوافق شرع الله.
انظر إلى اليهودى (تيودور هرتزل) – لعنه الله – وهو يخطط لقيام دولة إسرائيل، لقد اجتمع مع كبار اليهود فى العالم فى بازل بسويسرا، عام 1897م ليقرر لهم أنه يجب أن يكون لليهود وطن قومى فى فلسطين أو البرازيل … ليست هذه النقطة المهمة الآن ولكن النقطة التى تثيرنى حقاً هو بعد كم من السنوات تتحقق خطته؟
كان اللعين يخطط لتحقيق هذا المخطط بعد مائة عام من وقت الاجتماع بالضبط، ولهذا قد تعجب .. نعم .. قد تعجب لشخص يخطط لحدث قد يحدث بعد وفاته بعقود طويلة .. يخطط لأمة من البشر بأكملها، كى تتحول من لا شىء إلى دولة يحسب لها العالم أجمع ألف حساب، وتنافس العالم قاطبة فى مجالات العلوم والصناعات المختلفة .. (ولى إحصائية عن إنتاجية إسرائيل مقارنة بإنتاجية الوطن العربى ككل فى تدوينة قريبة إن شاء الله) ..
***
حينما احتل الصليبيون المسجد الأقصى ودنسوا المسجد الأقصى بخيولهم وأحذيتهم وخنازيرهم، كانت الأمة فى أدنى هوان، وأذل حال .. ربما أكثر من اليوم، وكان تخاذل الجيل فى الدفاع عن القضية غير موصوف، وكان عشق الحكام لكراسيهم يفوق تخيلك الآن إذا علمت أن الواحد منهم كان على استعداد لبيع أخيه لأعداء الله مقابل الاحتفاظ بكرسيه، ليس هذا فحسب ولكن أيضاً يدفع لهم جزية مقابل تركه وشأنه على كرسيه.
حينما يكون هذا هو حال الأمة فى حقبة من الزمن، تحتاج الأمة إلى مخطط عبقرى يخطط لعقود وأجيال كاملة ..
لذلك كان هذا هو وقت ظهور رائد الصحوة الإسلامية فى عصره، ومجدد شباب الدين فى هذه الحقبة .. الإمام الغزالى رحمه الله.
لقد أدرك الإمام بفطنته أن هذا الجيل ليس جيل نصرة، وأنه يحتاج إلى غربلة وتنقيح، وأن البداية الحقيقية من المساجد، وعلى أيدى رواد المساجد، ومن يستمع له رواد المساجد .. أى العلماء ..
فبدأ بالعلماء .. فنشر منهج دعوى جديد يتعامل مع ظروف هذه الحقبة، يقوده فئة من صفوة علماء هذا العصر، يتزعمون حملة توعية ضخمة لنشر العلم، ويحملون على أكتافهم هم إحياء هذه الأمة ونهضتها من كبوتها، ويعلمون جيداً أن نتائج جهودهم لن يروها فى حياتهم، بل ربما تظهر بعد مماتهم بعقود وعقود ..
واجتهد العلماء بقيادة الإمام الغزالى رحمه الله فى حياته وبعد وفاته، حتى نشأ جيل كامل يعى القضية ويسعى لحمل الأمانة، ونيل شرف الشهادة على أعتاب الأقصى.
من نتائج هذا الجهد العظيم لهذا الجيل خرجت الأسماء اللامعة …
خرج عماد الدين زنكى فبدأ دعوة الجهاد وانطلق ليحقق أولى انتصارات الإسلام على الصليبيين .. ولم ينس أن يغذى ابنه (محمود) بنفس المبادئ والأسس التى بنى عليها جهاده ..
خرج نور الدين محمود … واعتنق حلماً .. أن يضع منبراً من أزهى ما صنعت آيادى الصناع فى صدر المسجد الأقصى .. وبالفعل بدأ فى صناعة المنبر، وأتم صنعه، وبدأ سعيه حتى يضع منبره فى المسجد الأقصى .. ولكنه – للعجب – مات قبل أن يرى حلمه بعينيه، ولكنه رآه بقلبه يتحقق .. فمات قرير العين .. مات قرير العين وهو مطمئن لأنه ترك المنبر فى أياد ستصونه حق الصيانة، حتى تضعه فى موضعه ..
خرج أسد الدين شيركوه .. ومن تحت جناح خرج رمز من رموز التحرير فى التاريخ العربى والإسلامى والعالمى .. خرج صلاح الدين الأيوبى ..
صلاح الدين الذى رفض أن يبتسم والأقصى فى أسر عداة الإسلام ..
صلاح الدين الذى صان الأمانة وأوصل المنبر إلى موضعه فى المسجد الأقصى ..
من كان يتصور أن هذه الصفوة من الرجال ومن تابعهم من القواد والفرسان والجنود، نتيجة حلم وتخطيط لرجل واحد .. رجل بآلاف الرجال .. أدرك قيمة التخطيط الاستراتيجى قبل أن يخترع المتفلسفون هذا المصطلح بمئات السنين .. رجل أدرك أن الأحلام تتحقق بالتخطيط والعمل والصبر .. رحم الله الإمام الغزالى ..
للمقال بقية إن شاء الله
(المصدر: موقع النواوى)